كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالثة: إنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور أحدهما وصف ذاته بالنور {الله نور السموات والارض} [النور: 35] وثانيهما الرسول {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} [المائدة: 15] وثالثهما الكتاب {واتبعوا النور الذي أنزل معه} [الأعراف: 157] ورابعها الإيمان {يريدون أن يطفئوا نور الله} [التوبة: 32] وخامسها عدل الله {وأشرقت الأرض بنور ربها} [الزمر: 69] وسادسها ضياء القمر {جعل القمر فيهن نورًا} [نوح: 16] وسابعها النهار {وجعل الظلمات والنور} [الأنعام: 1] وثامنها البينات {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} [المائدة: 44] وتاسعها الأنبياء {نور على نور} [النور: 35] وعاشرها المعرفة {مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} [النور: 35] فكأن موسى عليه السلام قال أوّلًا {رب اشرح لي صدري} بمعرفة أنوار جلال كبريائك. وثانيًا {رب اشرح لي صدري} بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك. وثالثًا {رب اشرح لي صدري} باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك. ورابعًا {رب أشرح لي صدري} بنور الإيمان والإيقان بالهيتك. وخامسًا {رب اشرح لي صدري} بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك. وسادسًا {رب اشرح لي صدري} بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلالك وعزتك كما فعله إبراهيم صلوات الرحمن عليه. وسابعًا {رب اشرح لي صدري} عن مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك. وثامنًا {رب اشرح لي صدري} بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمائك. وتاسعًا {رب اشرح لي صدري} في أن أكون خلف صدق أنبيائك المتقدمين متشبهًا بهم في الانقياد لحكم رب العالمين. وعاشرًا {رب اشرح لي صدري} بأن تجعل سراج الإيمان كالمشكاة التي فيها المصباح.
الرابعة: شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج، ومستوقد السراج محتاج إلى سبعة أشياء: زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن. فالزند زند المجاهد {والذين جاهدوا فينا} [العنكبوت: 69] والحجر حجر التضرع {وادعوا ربكم تضرعًا وخيفةً} [الأعراف: 55] والحراق منع الهوى {ونهى النفس عن الهوى} [النازعات: 40] والكبريت الإنابة {وأنيبوا إلى ربكم} [الزمر: 54] والمسرجة الصبر {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] والفتيلة الشكر {لئن شكرتم لأزيدنكم} [ابراهيم: 7] والدهن الرضا {واصبر لحكم ربك} [الطور: 48] ثم إذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن تطلب المقصود من حضرة ربك بالتضرع والدعاء قائلًا {رب اشرح لي صدري} فهنالك تسمع {قد أوتيت سؤلك يا موسى}. الخامسة: هذا النور الروحاني المسمى بشرح الصدر أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه أحدها: الشمس يحجبها الغيم، وشمس المعرفة لا تحجبها السموات السبع {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] وثانيها الشمس تغيب ليلًا وشمس المعرفة لا تغيب ليلًا {إن ناشئة الليل هي أشد وطئًا وأقوم قيلًا} [المزمل: 6] {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17] {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا} [الإسراء: 1] الليل للعاشقين ستير ياليت أوقاته تدوم وعند الصباح يحمد القوم السرى. وثالثها الشمس تفنى {إذا الشمس كورت} [التكوير: 1] والمعرفة لا تفنى {أصلها ثابت وفرعها في السماء} [ابراهيم: 24] {سلامٌ قولًا من ربٍ رحيمٍ} [يس: 58] ورابعها الشمس إذا قارنها القمر انكسفت وشمس توحيد المعرفة وهي أشهد أن لا إله إلا الله إذا لم تقرن بقمر النبوة وهي أشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل نور إلى عالم الجوارح. وخامسها الشمس تسود الوجه والمعرفة تبيض الوجوه {يوم تبيض وجوه} [آل عمران: 106] وسادسها الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الإحراق جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي وسابعها الشمس تصدع والمعرفة تصعد {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] وثامنها الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في الدارين {فلنحيينه حياةً طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97] وبوجه آخر الشمس زينة لأهل الأرض، والمعرفة زينة لأهل السماء. وتاسعها الشمس فوقاني الصورة تحتاني المعنى، والمعارف الإلهية تحتانية الصورة فوقانية المعنى، وفيه أن الخيبة مع الترفع والشرف مع التواضع. وعاشرها الشمس تعرّف أحوال الخلق، والمعرفة تصل القلب إلى الخالق. والشمس تقع على الولي والعدوّ والمعرفة لا تحصل إلا للولي، ولما كان شرح الصدر الذي هو أول مراتب الروحانيات أشرف من أعلى مراتب الجسمانيات بدأ موسى بطلبه قائلًا {رب اشرح لي صدري}.
السادسة: الشمس سراج أوقدها الله تعالى للفناء {كل من عليها فان} [الرحمن: 26] والمعرفة سراج استوقده للبقاء {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} [ابراهيم: 27] والذي خلقه للفناء إذا قرب منه الشيطان احترق {يجد له شهابًا رصدًا} [الجن: 9] والذي خلقه للبقاء كيف يقرب منه الشيطان {رب اشرح لي صدري} وأيضًا: الشمس في السماء ثم إنها مع بعدها تزيل الظلمة عن بيتك، فشمس المعرفة مع قربها لأنها في قلبك أولى أن تزيل ظلمة المعصية والكفر عن قلبك. وأيضًا الإنسان إذا استوقد سراجًا فإنه لا يزال يتعهده ويمده، والله تعالى هو الموقد لسراج المعرفة {ولكن الله حبب إليكم الإيمان} [الحجرات: 7] أفلا يمده وهو معنى قوله: {رب اشرح لي صدري}. وأيضًا إذا كان في البيت سراج فإن اللص لا يقرب منه، وإنه سبحانه قد أوقد سراج المعرفة في قلبك فكيف يقرب الشيطان منه {رب اشرح لي صدري} وأيضًا المجوس إذا أوقدوا نارًا لا يجوزون إطفاءها، فالملك القدوس إذا أوقد سراج المعرفة في قلبك كيف يرضى بإطفائها {رب اشرح لي صدري}.
السابعة: أنه سبحانه أعطى قلب المؤمن تسع كرامات أحدها {أوَمَنْ كان ميتًا فأحييناه} [الأنعام: 122] وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضًا ميتة فهي له» فيعلم أنه لما خلق أرض القلب فأحياها بنور الإيمان لا يكون لغيره فيها نصيب. وثانيها الشفاء {ويشف صدور قوم مؤمنين} [التوبة: 14] وفيه أنه إذا وضع الشفاء في العسل بقيت تلك الخاصية فيه أبدًا. فإذا وضع الشفاء في الصدر فكيف لا يبقى أبدًا؟ وثالثها الطهارة {أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} [الحجرات: 3] وفيه أن الصائغ إذا امتحن الذهب فبعد ذلك لا يدخله في النار، فالله تعالى لما امتحن قلب المؤمن كيف يدخله النار بعده؟ ورابعها الهداية {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} [التغابن: 11] وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يهدي نفسك والقرآن يهدي روحك والمولى يهدي قلبك، والأول قد يحصل وقد لا يحصل {إنك لا تهدي من أحببت} [القصص: 56] وكذا الثاني {يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا} [البقرة: 26] وأما هداية القلب فلا تزول ألبتة لأن الهادي لا يزول {ولكن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [القصص: 56] وخامسها الكتابة {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} [المجادلة: 22] وفيه أن القرطاس إذا كتب فيه القرآن لم يجز إحراقه، فقلب المؤمن الذي فيه القرآن وجميع أحكام ذات الله وصفاته كيف يليق بالكريم إحراقه؟ وأيضًا إن بشرًا الحافي أكرم قرطاسًا فيه اسم الله تعالى فنال سعادة الدارين، فإكرام قلب فيه معرفة الله أولى بذلك. وأيضًا إن القرطاس إذا كتب فيه اسم الله الأعظم عظم قدره حتى إنه لا يجوز للجنب والحائض مسه، فالقلب الذي فيه أكرم الموجودات كيف يجوز للشيطان الخبيث أن يمسه؟ وسادسها {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين} [الفتح: 4] وفيه أن أبا بكر لما نزلت عليه السكينة في الغار قيل له لا تحزن إن الله معنا. فالمؤمن إذا نزلت السكينة في قلبه لابد أن يقال له عند قبض الروح: لاتخف ولا تحزن كما قال: {تنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا} [فصلت: 30] وسابعها المحبة والزينة كما قال: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم} [الحجرات: 6] وفيه أن الدهقان إذا ألقى في الأرض حبة فهو لا يفسدها ولا يحرقها، فهو سبحانه حين ألقى حبة المحبة في أرض القلب كيف يحرقها؟ وثامنها {وألف بين قلوبكم} [آل عمران: 103] وفيه أن محمدًا حين ألف بين قلوب أصحابه ما تركهم غيبة ولا حضورًا سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين كيف يتركهم {سلامٌ قولًا من ربٍ رحيم} [يس: 58] وتاسعها الطمأنينة {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 21] وفيه أن الحاجات غير متناهية وما سوى الله فهو متناه، المتناهي لا يقابل غير المتناهي.
فالكافي للمهمات لا يكون إلا من له كمالات غير متناهيات فلا يزيل قلق الحوائج واضطراب الأماني إلا الله سبحانه، وبإزاء هذه الكرامات ورد في حق الكفار أضدادها {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم} [التوبة: 127] {في قلوبهم مرض} [البقرة: 10] {قلوبهم قاسية} [المائدة: 13] {إنا جعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه} [الكهف: 57] {وختم الله على قلوبهم} [البقرة: 7] {أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24] {بل ران على قلوبهم} [المطففين: 14] {طبع الله على قلوبهم} [النحل: 108] فلأجل تلك الكرامات والهرب من أضدادها قال موسى {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري}.
الثامنة: في حقيقة شرح الصدر وذلك أن لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا إلا رغبة بأن يكون متعلق القلب الأهل والولد وتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم، ولا رهبة بأن يكون خائفًا من الأعداء والمنازعين فإن القوة البشرية لضعفها كينبوع صغير، فإذا وزعت على جداول كثيرة ضعف الكل وضاعت وإذا انصب الكل في موضع واحد ظهر أثرها وقويت فائدتها، فسأل موسى ربه أن يوقفه على معايب الدنيا وقبح صفاتها ليكون متوجهًا بالكلية إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات وهذا معنى قوله: {رب اشرح لي صدري}. أو نقول: إنه لما كلف بضبط الوحي في قوله: {فاستمع لما يوحى} وبالمواظبة على خدمة الخالق في قوله: {فاعبدني} فكأنه صار مكلفًا بتدبير العالمين، والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر فسأل موسى ربه قوة وافية بالطرفين فقال: {رب اشرح لي صدري} أو نقول: معدن النور هو القلب، والاشتغال بما سوى الله- من الزوجة والولد والصديق والعدوّ بل الجنة والنار- هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر، فإذا قوى الله بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه كالذباب والبق والبعوض فلا يدعوه رغبة إلى شيء مما يتعلق بالدنيا ولا رهبة من شيء من ذلك فيصير الكل عنده كالعدم فعند ذلك يزول الحجاب وينفسخ القلب بل الصدر للنور {رب اشرح لي صدري}.
التاسعة: لنضرب مثلًا لذلك فنقول: البدن بالكلية كالمملكة، والصدر كالقلعة، والفؤاد كالصفة، والقلب كالسرير، والروح كالملك، والعقل كالوزير، والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة، والغضب كالاسفهيد الذي يشتغل بالضرب، والتأديب والحواس كالجواسيس، وسائر القوى كالمحترفين والعملة والصناع. ثم إن الشيطان كملك مطاع وإنه يخاصم هذه البلدة والقلعة والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده، فإذا أخرج الروح وزيره وهو العقل أخرج الشيطان في مقابله الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى إلى الشيطان. ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الخصم في مقابلته الشهوة، فالفطنة توقفك على معايب الدنيا، والشهوة تحسن لذات الدنيا. ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتوقف على الحاضر والغائب من المعايب على ما قال «تفكر ساعة خيرمن عبادة سنة» فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة، ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحًا والقبيح حسنًا، فأخرج الشيطان بإزائه العجلة والسرعة فلهذا قال صلى الله عليه وسلم «ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما دخل الخرق في شيء إلا شانه» وخلق السموات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه هي الخصومة الواقعة بين الصفين وقلبك وصدرك هو المعركة. ثم إن لهذا الصدر الذي هو القلعة خندقًا وهو الزهد في الدنيا، وله سور وهو الرغبة في الآخرة. فإن كان الخندق عظيمًا والسور قويًا عجز عسكر الشيطان وجنوده فانهزموا، وإن كان بالضد دخل الشيطان وجنوده من الكبر والهوى والعجب والبخل وسوء الظن بالله ومن النميمة والغيبة وسائر الخصال الذميمة، وينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه، ثم إذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح وانشرح {رب اشرح لي صدري}.
النكتة العاشرة: في الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب. الصدر مقر الإسلام {أفمن شرح الله صدره للإسلام} [الزمر: 22] والقلب مقر الإيمان {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم} [الحجرات: 7] {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} [المجادلة: 22] والفؤاد مقر المشاهدة {ما كذب الفؤاد ما رأى} [النجم: 11] واللب مقام التوحيد {إنما يتذكر أولوا الألباب} [الزمر: 9] أي الذين خرجوا من قشر الوجود المجازي وبقوا بلب الوجود الحقيقي. ثم إن القلب كاللوح المحفوظ في العالم الصغير فإذا ركب العقل سفينة التوفيق وألقاها في بحار أمواج المعقولات من عالم الروحانيات هبت من مهاب العظمة والكبرياء رخاء السعادة تارة ودبور الأدبار أخرى، فحينئذٍ يضطر الراكب إلى التماس أنوار الهدايات وطلب انفتاح أبواب السعادات فيقول {رب اشرح لي صدري} وإنما سأل موسى شرح الصدر دون القلب لأن انشراح الصدر يستلزم انشراح القلب دون العكس. وأيضًا شرح الصدر كالمقدمة لشرح القلب والجواد يكفيه الإشارة، فإذا علم أنه طالب للمقدمة فلا يليق بكرمه أن يمنعه النتيجة. وأيضًا إنه راعى الأدب في الطلب فاقتصر على طلب الأدنى. فلا جرم أعطى المقصود فقال: {قد أتيت سؤلك يا موسى} وحين اجترأ في طلب الرؤية بقوله: {أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143] أجيب بقوله: {لن تراني}. واعلم أن جميع المهيئات الممكنة كالبلور الصافي الموضع في مقابلة شمس القدس ونور العظمة ومشرق الجلال، فإذا وقع للقلب التفات إليها حصلت له نسبة إليها بأسرها، فينعكس شعاع كبرياء الإلهية من كل واحد منها إلى القلب فيحرق القلب. ومعلوم أن المحرق كلما كان أكثر كان الاحتراق أتم، فلهذا قال موسى {رب اشرح لي صدري} حتى أقوى على إدراك درجات الممكنات وأصل إلى مقام الاحتراق بأنوار الجلال كما نبينا صلى الله عليه وسلم «أرني الأشياء كما هي» وهاهنا دقيقة وهي أن موسى لما زاد لفظة {لي}.
في قوله: {رب اشرح لي} دون أن يقول رب اشرح صدّري علم أنه أراد أن تعود منفعة الشرح إليه فلا جرم يقول يوم القيامة نفسي نفسي وإن نبينا صلى الله عليه وسلم لما لم ينس أمته في مقام القرب إذ قيل له «السلام عليك أيها النبي» فقال: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، فلا جرم يقول يوم القيامة «أمتي أمتي» وشتان ما بين نبي يتضرع إلى الله ويقول {رب اشرح لي صدري} وبين نبي يخاطب أولًا بقوله: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1]. ولا يخفى أن المراد بالشرح والتيسير عند أهل السنة هو خلقهما، وعند المعتزلة تحريك الدواعي والبواعث بفعل الألطاف المسهلة، فإنه يحتمل أن يكون هناك من الألطاف ما لا يحسن فعلها إلا بعد هذا السؤال.
أما قوله سبحانه {واحلل عقدةً من لساني} فاعلم أن النطق فضيلة عظيمة وموهبة جسيمة ولهذا قال: {خلق الإنسان علمه البيان} [الرحمن: 3، 4] بغير توسط العاطف كأنه إنما يكون خالقًا للإنسان إذا علمه البيان. وفي لسان الشاعر وهو زهير:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

وعن علي كرم الله وجهه: ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة مصورة أو بهيمة مهملة. وقالت العقلاء: المرء بأصغريه. المرء مخبوء تحت لسانه. وفي مناظرة آدم والملائكة لم تظهر الفضيلة إلا بالنطق. ومن التعريفات المشهورة: إن الإنسان هو الحيوان الناطق، وهذا النطق وإن كان في التحقيق هو إدراك المعاني الكلية لكن النطق اللساني لا ريب أنه أظهر خواص الآدمي وقد نيط به أمر تمدنه والتعبير عما في ضميره فقول موسى {رب اشرح لي صدري} إشارة إلى طلب النور الواقع في القلب، وقوله: {ويسر لي أمري} رمز إلى تسهيل ذلك التحصيل، وقوله: {واحلل} طلب لسهولة أسباب التكميل لأن اللسان آلة إلافاضة والإفادة وبه يتيسر ذلك الخط الجسيم والمنصب العظيم.
وحسبك يا فتى شرفًا وفخرًا ** سكوت الحاضرين وأنت قائل

ومن الناس من مدح الصمت بوجوه منها: قوله صلى الله عليه وسلم «الصمت حكمة وقليل فاعله» وقوله: مقتل الرجل بين فكيه. وفي نوابغ الكلم: يا بني قِ فاك لا تقرع قفاك. ومنها أن الكلام خمسة أقسام: فالذي ضرره خالص أو غالب أو مساوٍ للنفع واجب الترك احترازًا من السفه والعبث، والذي نفعه خالص أو غالب عسر المراعاة فالأولى تركه. ومنها أنه ما من موجود أو معدوم معلوم أو موهوم إلا واللسان يتناوله بإثبات أو نفي بحق أو بباطل، بخلاف سائر الأعضاء. فالعين لاتصل إلا إلى الألوان والسطوح، والأذن لا تصل إلا إلى الأصوات والحروف، واليد لا تصل إلا إلى الأجسام، وكذا باقي الجوارح.